الصفحة الأساسية > البديل الثقافي > شمعة أخرى تضاء دفاعا عن الفن والحياة
الدورة الثانية لذكرى "الشيخ":
شمعة أخرى تضاء دفاعا عن الفن والحياة
22 حزيران (يونيو) 2004

"نلتقي بعد قليل، بعد عام، بعد عامين وجيل…"، هكذا كانت الحكاية مع الشيخ إمام عيسى. فبعد ما يقارب عن عقد من الزمن على وفاته تلتقي مجموعة من عشّاق الشيخ ويقررون إحياء ذكرى وفاته بإقامة دورة سنوية تشارك جملة من الفنانين والفرق الموسيقية التي تؤمن بدور الموسيقى والكلمة التي آمن بهما الشيخ إمام.

في السنة الفارطة كانت ضربة البداية لإحياء هذه الذكرى، وهي محاولة أراد من خلالها منظمو الدورة جس نبض مسار هذا التوجه الموسيقي، وكيف حال المتلقّي معه، بعد سنوات القحط التي مرّ به الواقع الثقافي في تونس وخاصة واقع الموسيقى والأغنية. فكانت المفاجأة حيث غص فضاء "التياترو" الذي يديره المسرحي المعروف توفيق الجبالي بالحضور من جميع الفئات العمرية ومن مختلف القطاعات: (تلامذة، طلبة، أساتذة، معلمين، موظفون وعمال…) وهو الأمر الذي دفع منظمي التظاهرة إلى تحويلها إلى تظاهرة سنوية.

وكان يوم الرابع من شهر جوان هذا العام يوم انطلاق الدورة في موعدها الثاني لتستمر طيلة أربعة أيام. حملت لنا في طياتها برنامجا ثريا. فقد وقع استدعاء جملة من الفرق الموسيقية ومن الفنانين الذين آمنوا بالتوجه الفني والجمالي للشيخ إمام. كانت "فرقة البحث الموسيقي بقابس" في ثوبها الجديد على الركح بفضاء التياترو تراوح بين موسيقى الشيخ إمام وبين موسيقى نبراس شمام، وكان صوت آمال الحمروني يشدو على كلتا النوتتين بدفء إنساني عهدناه في صوتها منذ كانت في مدارج الجامعة، آزرها في إطرابنا أحد عناصر الإنشاد الذين عززوا الفرقة حديثا.

ولم تحد فرقة "الحمائم البيض" التي عملت طيلة مشروعها على تكريس موسسيقى الجماهير الكادحة عن التوجه العام للدورة من حيث الأغاني، وفي مستوى المقطوعات الموسيقية. فكانت معزوفة "فلوجة سيتي" التي هزت الحاضرين، كما أرفقوها بمقطوعة "رقعة الشهداء" التي أثثها "حشاد" على آلة العود، برقصة صوّر خلالها صراع اللحظات الأخيرة دفاعا عن الحياة… كما حيوا الفنان حمادي العجيمي الذي دافع عن روح الموسيقى الجادة والهادفة، مؤكدين على دور الكلمة التي دافعت عن الفن والعدل وكل القيم الإنسانية بأغنية "إذا الشمس غرقت…" و"مر الكلام" للشيخ إمام.

ولعبت فرقة أسامة فرحات على تبيان الموسيقى الساخرة والكلمة الكاريكاتورية اللاذعة التي كان يؤسس لها الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، مثل "فاليري جيسكار ديستان" و"نويت أصلي" وغيرها من الأغاني التي تدرج ضمن ما يسمى بالسخرية السوداء.

وعمل الشاذلي الخميسي مع فرقة "قناطر" على الذهاب بالموسيقى إلى آفاق أرحب كسر خلالها الحدود بين الموسيقى الشرقية وموسيقى "الجاز" في محاولة لتكريس مقولة أن الموسيقى بلا حدود ولا ضوابط سوى انخراطها في الدفاع عن القيم الإنسانية التقدمية.

وما بين رحلة "البحث" لفرقة "البحث" وشرود الكمان في عالم "الجاز" لفرقة "قناطر" كانت الإبداعات الفردية على آلة العود لـ"جمال قلة"، جمال الذي يحمل في صوته جراحات الشارع وهمومه وآماله وآلامه. كان عوده كذلك ترجمان حاله عندما غنى الشيخ في أروع أغانيه "واه يا عبد الودود" و"أتوب إزّاي وأنا أيوب" وتفاعل معه الحضور كأنما على الركح "الشيخ إمام".

لم تقتصر التظاهرة على ترديد الأغاني، وإنما تجاوزت ذلك إلى التأسيس، عبر جدل فكري حول دور الفن وأسسه وأهدافه وأبعاده. وتناول النقاش واقع الثقافة والفن في تونس في السنوات الأخيرة، فتباينت الآراء والتوجهات ولامس من خلالها المشاركون معضلات الواقع الثقافي وأفق التجاوز…

كما عمل منظمو الدورة على الانفتاح على الأشكال الفنية الأخرى فحضر الفن التشكيلي وتم عرض شريط سينمائي ليوسف شاهين بعنوان "العصفور" تضمن أغاني وموسيقى الشيح الإمام.

رغم نجاح الدورة كان لا بد من الإشارة إلى بعض العوائق التي من المفروض أن يقع تجاوزها. أولى هذه العوائق الفضاء، فمن المفروض التفكير في فضاء أوسع للحفلات الكبرى حتى لا "يغضب" أحد وحتى يتمكن كل الوافدين من داخل البلاد ومن العاصمة من الحضور. ولما لا يفكر المنظمون في اقتراح مسرح القبّة مثلا للعروض الكبرى ومحافظة فضاء التياترو على خصوصيته كمركز للتظاهرة يحتضن الندوات والنقاشات. هذا إلى جانب التفكير جديا في تخصيص تخفيض تعريفة الدخول حتى يتمكن الناس من مواكبة هذا الفن. هذا الأمر يصبح ممكنا مع إيجاد فضاء أوسع.

ملاحظة أخرى نسوقها لمنظمي الدورة، فلماذا لا يفكرون في فرق موسيقية من خارج تونس، فالشيخ إمام رافع راية الأغنية الملتزمة في الوطن العربي. ويوجد في سوريا وفلسطين وغيرهما فرق موسيقية تسير على دربه. فلماذا لا يقع التعامل معها في مثل هذه التظاهرة ونذكر مثلا فرقة "صابرين" الفلسطينية ومجموعة الرحابنة المقيمة في لبنان وغيرهما من الفرق الموسيقية الشابة التي تعمل على تثبيت خطاها في عالم الموسيقى الجادة والهادفة. وأخيرا وليس آخرا لماذا لا ترصد جائزة الشيخ إمام لأفضل البراعم التي تؤدي أغانيه تأصيلا لهذا الفن وحفاظا عليه. وفي انتظار وعود الدورة القادمة نغني مع الشيخ إمام:


"لو علقوا لي مشنقة

أو حتى مليون مشنقة

حولين رقبتي لفكها

وآخذ حبلها وألفها

وأصنع قلم يكتب حروف

متشوقة لساعة خلاص…"



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني