الصفحة الأساسية > البديل الوطني > الجَّدَيْدَة بين فيضاني مجردة وشافرو : وقائع، نوادر، واقتراحات
تحقيق ميداني:
الجَّدَيْدَة بين فيضاني مجردة وشافرو : وقائع، نوادر، واقتراحات
1 آذار (مارس) 2004

لم يفرغ متساكنو الجديدة من ترميم منازلهم وإعادة بناء ما تهدم من أسوارهم وتنظيف محيطها مما تكدّس فيها من أوحال الفيضانات السابقة ولم ينته فلاحوها من بذر ما جف من حقولهم ممنين النفس بموسم أكثر استقرارا وصابة تعوضهم عما فقدوه في الموسم الفلاحي المنصرم حتى فوجئوا صبيحة يوم 5/1/2004 -وهو يوم العودة المدرسية بعد عطلة الشتاء- بإغلاق المدرستين الإعداديتين بالمنطقة وكذلك المدرسة الابتدائية بحي الإذاعة. ولم تمض سوى ساعات حتى تم تحذير متساكني حي الفردوس وحي حشاد وحي النجاة وتلاميذ المدارس والأولياء من فيضان وشيك لوادي مجردة. ومع حلول المساء طوّق الماء مدينة الجديدة وحوّلها إلى شبه جزيرة. ولم يسلم منها إلا حي الضمان والجديدة القديمة المرتفعين نسبيا. ومن الغد انقطعت الطرق الرابطة بين تونس وطبربة والبطان وشواط عبر مدينة الجديدة وأصبح المرور إليها عبر قرية الحبيبية حصريا. وامتدت سيول وادي مجردة ووادي شافرو لتصل إلى بجاوة وسيدي ثابت متخطية قرى السعيدة وزوناف لتصل إلى تخوم مدينة وادي الليل وليستفيق سكان الجديدة على واقع مؤلم: إنها الفياضانات من جديد وما أشبه اليوم بالبارحة، بل ما أفضع اليوم مقارنة بالبارحة.

وطبيعي في مثل هذه الظروف أن يشتد التذمر وتتنوع التفسيرات وتنتشر الإشاعات. وفي محاولة للوقوف على حقيقة الوضع قمنا بزيارات إلى مدينة الجديدة وعاينا وادي مجردة ووقفنا فوق قناطره (قنطرة شافرو، قنطرة الجديدة الحديثة، قنطرة الطريق الرابطة بين طبربة والجديدة) وشاهدنا ارتفاع مستوى الماء في الوادي إلى مستوى 8 أمتار و10 صنتمترات على سلم من 10 أمتار. كما تحادثنا مع فريق من وزارة التجهيز حضر لقيس ارتفاع وقوة الماء في نقاط مختلفة من الوادي وأكد لنا الأعوان أن لا علاقة لكمية الأمطار وقوة السيول بالفيضانات الحالية، بدليل أن مجردة لم يفض على حي الملاسين بالجديدة مثل السنة الفارطة. وفعلا التقينا في نفس المكان عجوزين وشيخا من نفس الحي حدثونا بمرارة عن معاناتهم التي تضاعفت هذه السنة بسبب فيضان قنوات التطهير والمراحيض من تحت الجليز في منازلهم وتساقط جدرانهم وأسوارهم التي أصبحت على درجة كبيرة من الهشاشة بسبب الرطوبة. وتجولنا على ضفتي الوادي حيث تجمع الناس في أماكن مختلفة على القناطر وقرب المدارس وأمام المقاهي وفي محطات الحافلات متهامسين، متذمرين من لامبالاة السلطة وتأخر وضعف تدخلها. وفيما يلي بعض ما توقفنا عنده انطلاقا من تصريحات المواطنين وما لاحظناه بأنفسنا:

1) الأضرار الناجمة عن الفيضانات :

تُجمع أغلب التصريحات على عدم وجود خسائر بشرية. لكن الأضرار المادية كانت فادحة ويمكن تلخيصها كما يلي:
- تحول الحقول والبساتين إلى بحيرات وإتلاف ما فيها من بذور وغراسات للسنة الثانية على التوالي.
- موت عدد من المواشي والدواجن.
- غرق معمل العلف وفرع شركة ستيل بالجديدة في المياه وانقطاع العمل فيهما لمدة طويلة.
- فقدان العديد من الأجهزة المنزلية والأغطية والمفروشات والملابس والمؤونة والمواد الغذائية خاصة لمتساكني حي الفردوس وحي حشاد وحي السوق الذين تم إجلاؤهم إلى مراكز الإيواء.
- إغلاق المدرستين الإعداديتين بالجهة ومدرسة الفوز ومدرسة حي الإذاعة مع تعطل المرور إلى المدن المجاورة.انتشار الرطوبة التي تساعد على ظهور الأمراض المزمنة مثل الربو والحساسية الروماتيزم…
- حالة الرعب والهلع التي تنتاب المواطنين خوفا على حياتهم وأرزاقهم وما تسببه من أمراض نفسية.

2) تدخّل السلط المحلية ورجال الإنقاذ :

يتوهم الداخل إلى مدينة الجديدة من جهة تونس –بسبب كثافة الحضور الأمني- أن السلطة تطوّق الأزمة وتقوم بواجبها على أحسن وجه. لكن المتجوّل في الأحياء والمختلط بالمتضررين يتوقف على حقيقة أن تدخّل السلط المحلية وغيرها دون المنتظر والمأمول، بل إنها لم ترتق إلى مستوى فيضانات السنة الفارطة إذ غابت زوارق الحماية المدنية وعوّضها جرار يتيم ينقل متساكني حي الفردوس إلى وسط مدينة الجديدة، واختفت مراكز توزيع الأغذية والأغطية الصوفية هذه السنة بتعلة أن فيضانات السنة الفارطة كانت مفاجئة أما الآن فالسكان تعوّدوا على الفيضانات وكان عليهم الاستعداد لها. إن كل ما قامت به السلطة هو نقل الأكثر تضررا إلى ملاجئ مدرسة الفوز ومركز رعاية المتخلفين ذهنيا بالحبيبية ومستشفى الرازي بمنوبة متخلية بذلك عن مركز منتزه الحبيبية الذي استعملته في السنة الفارطة والذي انتشرت فيه الأمراض وخاصة الجرب، وسُجّلت فيه بعض التجاوزات الأخلاقية تورط فيها بعض الحراس والمسؤولين مع بعض النزيلات وغابت فيه الرعاية الصحية والبيئية حتى أصبح هدفا للتندر. أما شاحنات الجيش والجرافات وسيارات الشرطة والحرس المصطفة يوميا أمام المعتمدية أو قريبا من "تمثال القنارية" وسط المدينة فلم تقم بمجهود كبير بل كان ذلك مناسبة للأعوان والسوّاق للراحة… ولم لا الحصول على بعض "الخموسات" و"العاشورات"… وقد روى لنا أحد المتضررين أن إعانات السنة الفارطة على بساطتها (كردونة مواد غذائية لا تتجاوز قيمتها 5 دنانير مع غطاءين صوفيين لكل عائلة متضررة) كانت أفضل من لا شيء وهي على الأقل تشعرهم أنهم ليسوا وحدهم بل هناك من يحس بهم.

3) افتضاح ممارسات السلطة وسياستها الاجتماعية :

في غياب المساعدات التي لا تسمن ولا تغني من جوع والتي تعوّد "التجمع" نهبها من مؤسسات وطنية ودولية ومن مواطنين وتوزيعها باسمه على المتضررين، انتشرت بمناسبة الفيضانات نوادر وروايات متنوعة حول تبخر عديد المساعدات الدولية التي حصلت عليها الدولة (من ألمانيا خصوصا) لفائدة الجديدة وتحدث مواطنون عن تبخر مئات الأغطية والأحذية وسرقة مساعدات مالية واتهام معتمد الجديدة السابق بالاستحواذ عليها. ويقول بعضهم أن هذا المعتمد افتضح إلى حد خضوعه لابتزاز البعض من ذوي السوابق العدلية وتمكينهم من بعض الامتيازات مقابل صمتهم. وقد اضطرت السلطة إلى نقله إلى جهة أخرى وأعلمَنا مواطنون أن المعتمد الجديد ووالي منوبة تعرضا لتهجم مواطنين غاضبين بسبب تقاعسهما وتأخرهما في الاتصال بالأحياء المتضررة. إن محدودية التذمرات وعدم تطورها يعود أساسا لغياب مكونات المجتمع المدني وأحزاب المعارضة والصحافة الحرة لتأطير الاحتجاجات والارتقاء بها.

4) قيم تصحو بمناسبة الكارثة :

يحق لمتساكني الجديدة رغم محنتهم أن يفاخروا بقدرتهم على استرجاع عديد القيم كالتعاون والتكافل التي كادت سياسة "التغيير" وثقافته أن تقبرها وقد تجلت في الأيام الأولى للفيضانات في شكل مجهودات تلقائية من المتساكنين من مختلف الأعمار لإجلاء عائلة متضررة أو إنقاذ منزل أو انتشال ماشية أو إرشاد سائق ومساعدته على قطع الطريق أو تنظيف محطة من الأوحال. وسارع عديد السكان لتقديم أغذية ومساعدات مالية للمتضررين لتكون بذلك اللافتة المعلقة في مدخل المدينة والمكتوب عليها "التونسي للتونسي رحمة" في محلها لا مجرد دعاية دأب عليها التجمع والسلطة.

5) اقتراحات وحلول ممكنة :

تحاول السلطة تفسير تجدد الفيضانات بكثرة الأمطار وارتفاع مستوى المياه في السدود. وتحاول أحيانا إلقاء اللائمة على السلطات الجزائرية بالادعاء أنها تنفّس السدود لتجنب انفلاقها. لكن للمواطنين رأي آخر حيث يؤكدون أن كثرة الأمطار ليست ظاهرة جديدة وإلا لماذا لم نسجل فيضانات طيلة 30 سنة؟ إنهم يقولون أن السبب الحقيقي للفيضانات هو تفصّي الدولة من مسؤوليتها وانشغالها بمجالات أخرى (الكرة مثلا) فلا هي عوّضت خسائر المتضررين ولا أصلحت الأضرار السابقة رغم الأموال التي حصلت عليها (الجسور، الملعب الرياضي، الأسوار المنهارة…) ويتصورون أن فيضان وادي مجردة هو بسبب ضيق مساحته وتراكم الأوحال وتكاثر أشجار الطرفاء والكلتوس داخل مجراه. لذلك فإن الحل يكمن في اقتلاع تلك الأشجار أو الترخيص للمواطنين في اقتلاعها وفي إخراج الأوحال والتربة من داخل الوادي وتكديسها على ضفتيه في المزارع لتكون حاجزا أمام الماء مستقبلا واستعمال التربة المستخرجة من الوادي في الأشغال العامة أو في الفلاحة. وفيما يلي بعض الحلول المقترحة من المواطنين :
- بناء جدران خرسانية على جانبي الوادي في المدن وقرب القناطر تساهم في توسيع الوادي.
- إجلاء السكان المحاذين للوادي والمعرضين للفيضانات وتمكينهم من منازل لائقة وتعويضات مناسبة.
- التنسيق الجيد مع السلطات الجزائرية والتفكير في حلول مشتركة.
- تكوين خلية طوارئ خلال فصل الأمطار يكون للمتساكنين تمثيلا فيها تسهّل التنسيق بين المتضررين والجهات المسؤولة وتعدّ قوائم الأضرار والمتضررين وتراقب توزيع المساعدات وتساعد في الإنقاذ.
- انتهاج سياسة إعلامية شفافة تقطع مع التعتيم والمغالطة واستغلال فواجع الناس وآلامهم للدعاية الكاذبة وفي نفس الوقت تجنب التهويل والإثارة والحد من الإشاعات وذلك بتمكين الصحفيين والقنوات الفضائية من كشف الحقائق والاتصال بالمتضررين وتصوير الأضرار ونقلها بأمانة.

إن حجم الأضرار وفداحة الخسائر تقتضي فتح تحقيق يحدد المسؤوليات ويكشف الحقائق ويحيل المتسببين فيها على القضاء.



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني