الصفحة الأساسية > البديل الوطني > الرّياضة والعنف: من المتسبب؟ و من المستفيد؟
الرّياضة والعنف: من المتسبب؟ و من المستفيد؟
22 نيسان (أبريل) 2006

أصدرت المحاكم التونسيّة في المدّة الماضية أحكاما بالسجن طالت العشرات من الشبان، و قد تجاوزت الأحكام الثلاث سنوات و ستة أشهر سجنا، و أحيلت في نفس الوقت مجموعة أخرى من الموقوفين إلى التحقيق وفقا لتهم جنائيّة نسبت لهم. وكما يعلم الجميع فإن الأمر يتعلق بأحداث العنف التي كان مسرحها محطة هرقلة للاستخلاص بالطريق السّيّارة تونس-مساكن و ذلك مساء الأحد 26 مارس المنقضي، و قد جمع هذا العنف أنصار جمعيّتي النجم و الترجّي، و قد طال العديد من الممتلكات الخاصة و العامّة(سيّارات، تجهيزات تلفزيّة...) و المارّين لحظتها من المكان، كما طال طفلة في العاشرة من عمرها أنقذها الأطبّاء من موت محقق، و نقل عدد آخر من الجرحى إلى مستشفيات سوسة، و قد تدخلت قوّات البوليس بقوّة مطوّقة المكان و مستعملة كلّ أشكال التعنيف وتواصل الحصار المضروب على الطريق السّيّارة إلى الغد و قد لفت ذلك أنظار مستعملي الطريق الذين تعرّضوا لعمليّات تفتيش و اعتداءات مختلفة. هذا و قد تمّ تكليف فرقة مقاومة الإجرام بالملفّ، وأعلن عن ذلك في وسائل الإعلام لمزيد ترهيب المواطنين و خاصّة أنصار الجمعيّات الرّياضيّة. ولم يقتصر العنف على أنصار جمعيّتي الترجّي و النجم –الذين كثيرا ما تكرّر هذا الأمر بينهم- بل سجّل الحكام و مراقبو المقابلات في نفس اليوم أحداثا عنيفة في خمسة ملاعب هي المنستير و المرسى وقفصة و مدنين و باجة.

إنّه حريّ بنا أن نقف على هذه الظاهرة المتفاقمة و التي أصبحت تطال الجماهير الرّياضيّة في كلّ مكان و من كلّ الأقسام، فالأمر لم يعد مقتصرا على جماهير الجمعيّات الكبرى المتنافسة على الألقاب، بل الأمر تحوّل إلى ظاهرة متّسعة و كبيرة و هو أمر من المفروض أنّه يتناقض مع جوهر الرّياضة و الرّوح الأولمبيّة لذلك يمكن الجزم اليوم بأنّ الرّياضة تحوّلت من مجالها الأصلي كممارسة تهدف إلى تحسين اللياقة البدنيّة و الحفاظ على الصّحّة العامّة و إلى تقوية روابط التعارف و الصّداقة بين الأفراد والمجموعات و الشعوب، إلى ممارسة تكرّس العنف و التنافس الأعمى و الكراهية، و هو انحراف خطير آخذ في الاتساع في العقود الأخيرة في كلّ بلدان العالم تقريبا، و هو انحراف تزامن مع تحويل الرّياضة إلى مجال للاستثمار و الإثراء مثلها مثل كلّ القطاعات الاقتصاديّة الأخرى، فالجمعيّات الرّياضيّة لم تعد جمعيّات ثقافيّة اجتماعيّة تربويّة بل تحوّلت إلى مؤسّسات تجاريّة تابعة لماكينة رأس المال و خاضعة لقوانينه، فالجمعيّة هي مجموعة أسهم يقع تبادلها في بداية كلّ موسم، و هي أصل تجاري يمكن التفريط فيه لمن يدفع أكثر لذلك نجد أكبر الجمعيّات الرّياضيّة في العالم مملوكة لأقطاب رأس المال على المستوى العالمي(أحد الأثرياء الخليجيّين تمكن في السنوات الأخيرة من شراء جمعيّة مانشستر يونايتد الانقليزيّة). هذا الأمر حوّل كلّ تفاصيل الحياة الرّياضيّة إلى مجال عرض وطلب، فأصبح اللاعب سلعة تباع و تشترى ويتنافس عليها المتنافسون، و أصبح الملعب فضاء للإشهار، كذلك للزيّ الرّياضي و الأدوات الرّياضيّة... كلّها تحمل توقيعات الشركات والمؤسّسات المالكة للجمعيّة و تدرّ عليها أرباح طائلة، فأصبح اللاعب و المدرّب و الإطار الفنّي والإداري و الأحبّاء كلهم تبّع و خدم لأصحاب أو صاحب الجمعيّة.

و بما أنّ الأمر كذلك فقد تحوّل المجال الرّياضي برمّته إلى فضاء تنفث فيه السّموم الإيديولوجية لأصحاب المصالح و مجموعات الضغط و الأحزاب و المجموعات الفاشيّة والعنصريّة، و يعتبر تمييع الآلاف من الأنصار وتهميشهم و تحويلهم إلى جيش من التّفه و ضيّقي الأفق لا يتجاوز خيالهم و لا قدرتهم على التذهّن والتفكير، مقابلة الأسبوع القادم، لذلك ترى الملايين من "محبّي الرّياضة" يواكبون أدقّ التفاصيل الخاصة بالجمعيّة و هذا اللاعب و ذاك المدرّب...، والحديث في هذا الشأن يطال كلّ ساعات اليوم في العمل والدّراسة و المقهى و وسائل النقل...، أمّا في البيت فالانتقال من قناة تلفزيّة مختصّة لأخرى ومن مقابلة لأخرى أمر عاديّ أصبح يشمل كلّ أفراد الأسرة بمن فيهم الأطفال الذين يتعلمون الدروس الأولى في التعصّب و الانحياز الأعمى و كره الآخر و احتقاره، و هو ما يخلق جمهورا غبيّا و طيّعا يسهل توجيهه و قيادته بما في ذلك للعنف و العنف الأعمى الذي صار أحد مميّزات الرّياضة في عصرنا، و هو عنف يطال الجمهور فيما بينه ويكون ضحاياه (موتى، جرحى، موقوفين...) من بين هؤلاء التعساء من الفقراء و المحرومين الذين وقع استبلاههم وغرست داخلهم أفكار خاطئة من قبيل "الدّفاع على المريول"، "علم الجمعيّة" الموت من أجل ألوان الجمعيّة"... و هي أفكار هدّامة تحرص البرجوازيّة و دوائرها على تغذيتها وإشاعتها لمزيد تهميش أبناء الشعب حتّى لا يصوّبوا غضبهم ضدّها. إنّ الحالة السّيكولوجيّة للجماهير المحرومة و قد زيّف وعيها و حوّلت وجهته، تفرز مظاهر غضب عارمة كثيرا ما تأخذ وجهة غير صحيحة بل و رجعيّة أصلا.

إنّ طاقات الجماهير الكامنة كان أولى لها و أحرى أن تذهب لغير هذه الوجهة، بل يجب أن توجّه إلى صدر الأعداء الطبقيّين الذين لا همّ لهم سوى الرّبح و الرّبح الأقصى. و كما الأمر في العالم استطاعت البرجوازيّة التابعة في بلادنا أن تستورد مظاهر العنف الرّياضي لمزيد تمييع الشباب التونسي وتغييبه عن واقعه البائس، و قد استفحلت هذه الظاهرة في السّنوات الماضية و أصبح من النادر أن تمرّ بعض المقابلات دون جرحى و موقوفين و حتّى أموات مثلما حدث في باجة سنة 1999 إذ سقط أكثر من عشرة صرعى بفعل القمع البوليسي الذي يزداد شراسة حين ترفع الجماهير الرّياضيّة شعارات ضدّ رموز الفساد، فمن المعلوم أنّ الرّياضة في بلادنا شأنها شأن كلّ القطاعات المربحة، انقضّت عليها العائلات المتنفّذة و كبار الأثرياء الذين استفحل الصّراع و التنافس بينهم من أجل السّيطرة فطال إفسادهم كلّ مستويات اللّعبة و خاصّة التحكيم الذي أصبح ألعوبة في يد المتنفذين و أصحاب القرار، وكثيرا ما كانت قرارات الحكام التي تكون دائما في صالح الأقدر، إيذانا بانطلاق العنف في المدارج والبقيّة معروفة إذ يتكفل البوليس بالأمر.

إنّ الفساد المستشري في القطاع الرّياضي والدّور المشبوه الذي تلعبه الصّحافة الرّياضيّة ومسؤولو النوادي الذين كثيرا ما يتوجهون لأنصارهم بخطب تجييش فاشستي فضلا عن مشاعر الغبن التي يحسّها أنصار الجمعيّات الصغيرة والفقيرة، كلها عوامل من شأنها تسميم الأجواء وتحويل المدارج إلى فضاءات لإنتاج أتعس الخطابات التي لا تخدم إلا مصالح رأس المال ورموزه، لذلك آن الأوان للقوى الثوريّة و التقدّميّة أن تتجه للجماهير الرّياضيّة من أجل توعيتها وتثوير فهمها لأوضاعها.

إنّ أبناء الفقراء هم دائما شحم مدافع في مصانع البرجوازيّة أو في مدارجها الرّياضيّة، إنّ الرّياضة هي في الأصل ممارسة ثقافيّة اجتماعيّة تهدف إلى تحسين الذوق و حفظ البدن و التفكير، و تحويلها إلى مجال استثماري هو طمس لجوهرها، فالرّياضة شعبيّة أو لا تكون، والرّوح الأولمبيّة هي ترفيه و ثقافة و تعارف وتحابب أو لا تكون.



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني