الصفحة الأساسية > البديل الوطني > ركوب مشكلة داخلية في كليّة لتضخيمها وتوظيفها في الداخل والخارج
حول أحداث ندوة "بول صبّاغ":
ركوب مشكلة داخلية في كليّة لتضخيمها وتوظيفها في الداخل والخارج
22 نيسان (أبريل) 2006

على إثر الجدل القائم إثر ما جدّ بكلية الآداب بمنوبة على هامش تكريم "بول صبّاغ" وإنارة لقراء البديل والرأي العام حول حقيقة ما وقع نمدّكم بهذه التغطية التي قام بها مناضل واكب الأحداث.

يوم الجمعة 10 مارس 2006 شهدت كليّة الآداب والفنون والإنسانيّات بمنوبة –تونس- انعقاد ندوة حول شخصيّة "بول صبّاغ"، فقيد الجامعة وعلم الاجتماع وصاحب المواقف الوطنيّة زمن الاستعمار.

إلا أن الطلبة كان لهم من خلال ممثليهم بالجزء موقف آخر، خلافا لما رواه الأساتذة الذين نظموا الندوة وعبّروا عنه في إحدى لوائحهم، ونجم عن ذلك أن نشبت مناوشات كلاميّة واحتكاكات مع هؤلاء المتهمين بـ "خدمة مآرب صهيونيّة" والذين يتهمون الطلبة بـ "السّعي إلى تعطيل التظاهرة" و"المسّ من حريّة النشاط الأكاديمي" و"الخلط بين اليهوديّة والصهيونيّة" و"معاداة السّاميّة" و"الجهل بشخصيّة بول صبّاغ".

ودعت النقابة الأساسيّة إثر ذلك الأساتذة إلى اجتماع عام يوم الخميس 16 مارس 2006، وبدأ خبر "الأحداث" على النحو الذي رواه عدد من المنظمين ينتشر بسرعة لا داخل الكليّة فحسب بل وخارجها في الأوساط الجمعيّاتيّة والحزبيّة وينتقل بالسّرعة نفسها إلى خارج البلاد، وتحديدا إلى فرنسا، حيث استغله هناك رئيس "المجلس التمثيلي للمؤسّسات اليهوديّة بفرنسا" ("كريف" CRIF) في بيان أصدره، ينسب إلى الطلبة شعارات لم يرفعوها ("الموت لليهود"، "اليهود في البحر") وأعمالا لم يرتكبوها (الاعتداء بالعنف على الأساتذة...) وبان حتى للمشتكين من تصرّف الطلبة أن البيان مغرض، واليد الصهيونيّة فيه لا تخفى، وخصوصا حين وقع التوجّه به إلى سفير تونس وإعطاؤه أبعادا واسعة، وربط ما جرى بفوز "حماس" في الانتخابات الفلسطينيّة إلخ...

أمّا الطلبة فلهم روايتهم التي عبّروا عنهــا في لوائحهم وشفويّا والتي يبدو من خلالها أنهم كانوا مستعدّين للاحتجاج على وزير التعليم العالي (الذي قابله أحد المنظمين ودعاه إلى الإشراف) بسبب نظام "إمد" المزمع تطبيقه دون استشارتهم، وأنهم أرادوا دخول القاعة للحضور والمناقشة فمنعهم المنظمون وأن رفض التطبيع الجاري مع الكيان الصهيوني كان وراء موقفهم من التظاهرة مع ما هو معروف لديهم من شبهات حول علاقة النواة المنظمة بالأوساط الإسرائيليّة والأنشطة التطبيعيّة التي شاركوا فيها بغطاء أكاديمي. كما أكد الطلبة بمختلف اتجاهاتهم (يساريّون، قوميّون، مستقلون) أنهم لم يتفوهوا بأي عبارة معادية لليهود واشتكوا من أنهم كانوا عرضة للاستفزازات والإهانات الكلاميّة (إرهابيّون، فاشيّون، معادون للسّاميّة، جهلة، عديمو تربية) بل إنهم يذكرون أن أحد الأساتذة بصق عليهم.

وفي الاجتماع العام حضر نفر محدود من أساتذة الكليّة وعدد آخر من أنصار المنظمين في أجزاء جامعيّة أخرى وعلى رأسهم عناصر من النقابة العامّة. ومُنِعَ ممثلو الطلبة من الحضور ومن إسماع روايتهم للأحداث والتعبير عن موقفهم أمام المجتمعين. كما تمّت تلاوة رسالة مسؤول الـ"كريف" بفرنسا وبيان الرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان. وتناوب على الكلمة طيلة زهاء ثلاث ساعات عديد المتدخلين من الطرفين: الطرف المنظم الذي تغوّل بعض أفراده ضدّ الطلبة، والطرف الذي يعرف هؤلاء المتغوّلين جيّدا ويعرف مصبّ مائهم، ويسعى إلى فحص الأمور برويّة وبموضوعيّة، ومن جوانبها المختلفة، دون تهويل أو توظيف، وكان الخلاف يشق القاعة ويشمل المشرفين على الاجتماع من أعضاء النقابة الأساسيّة.

وكان واضحا منذ البدء وعبر الوجوه التي تمّ جلبها واستحضارها واللهجة التصعيديّة والتوجيه السّياسي، والتجويق الحاصل بين خطباء الجمـاعة وأنصارهم في القاعة، ومحتوى العريضة "العالميّة" التي نشطوا في تدويرها والتي لم تلق الرّواج المطلوب بين الحاضرين، أنّ ما جرى حول الندوة كان المطيّة فحسب، ووقع استغلاله لتصفية حسابات مع بعض الأطراف السّياسيّة خارج الجامعة (الوحدويّون الناصريّون، حزب العمّال، هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحرّيّات...) حتى وإن كانت لا علم لها إطلاقا بـ "النّدوة".

كان المتكلمون من المنظمين وأنصارهم يذكرون في رواياتهم و"شهاداتهم" وقائع دون أخرى ويركزون على وقائع دون أخرى، وكان لا بدّ في كل مرّة من أصوات ترتفع لتطالب بسماع المسكوت عنه، وكان الدّفع واضحا باتجاه إدانة الطرف الطلابي والأطراف السّياسيّة التي لها علاقة مفترضة بالحادثة وحتى تلك التي لا علاقة لها، لكنها على خلاف مع من سمّوا أنفسهم بـ "المبادرة/الائتلاف الديمقراطي" (وتخصيصا "حركة التجديد").

لكن هذا التوجيه واجه معارضة وسط الحضور ربّما لم تخطر على بال حين ركب أصحابه موجة مناهضة "معاداة السّاميّة" و"الدّفاع عن الحرّيّات الأكاديميّة" وعن "الحداثة" ونبذ "التعصّب والظلاميّة" ودقوا نواقيس "الخطر الدّاهم" الذي جعلهم يغضون الطرف عن الخطر الجاثم بعد والكاتم أنفاس التونسيّين منذ 50 عاما والمنتهك بصورة منهجيّة ودائمة الحرّيّات الأكاديميّة والمدمّر مكاسب الجامعة والجامعيّين والمحوّل الكليّات والمدارس العليا إلى ثكنات تخضع لسلطة البوليس (الأمن الجامعي).

لقد واجه عديد المتدخلين من أعضاء النقابة والأكاديميّين الحاضرين هذا التيّار بمستويين من الردّ: أوّلهما: شجب التعرّض للنشاط الأكاديمي وأشكال التعامل التي توخاها بعض الطلبة –إذا ما ثبتت- مع شخصيّة "بول صبّاغ" ومع منظمي الندوة. والثاني: شجب ما قد يكون صدر عن هؤلاء (أي المنظمين) إزاء الطلبة، وما لا يزال يسمع على لسانهم ويلاحظ من تصرّفات تؤدّي إلى حجب الحقيقة. واستغراب بعض المتدخلين التعبئة الواسعة والمريبة التي تمّت حول حادثة داخليّة تعالج عادة في إطار الكليّة، وعابوا على المنظمين الصبغة الانعزاليّة التي طبعت إعداد الندوة وتذمّروا من عدم تشريك العمادة والنقابيّين والأساتذة والطلبة في التهيئة والتهيّؤ لتظاهرة ذات حساسيّة خاصّة في مثل الوضع الحالي وحول شخصيّة تحتاج إلى التعريف بها ورفع الالتباسات حولها عند من لا يعرفها. وعابوا على النقابة أنها لم تتحرّك منذ الإضراب الإداري الأخير قبل قرابة العام كي تدعو إلى اجتماعات تقييميّة أو إخباريّة، لكنها تحرّكت حين تعلق الأمر بحادثة داخليّة وجزئيّة وقع تضخيمها وتوظيفها، وقالوا إن جمهور الأساتذة كان ينتظر اجتماعا احتجاجيّا، على الأقلّ، بعد الإهانة الكبرى الحاصلة في أريحا (اقتحام الجيش الإسرائيلي سجن أريحا وتدميره واعتقال أحمد سعدات الأمين العام للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين ورفاقه واقتيادهم إلى أماكن غير معلومة) والتي تجاوزت رموز المقاومة والشعب الفلسطيني إلى العرب قاطبة وأحرار العالم أجمعين، لكنّ ذلك لم يحصل، وتُدَق نواقيس الخطر لا حول الخطر الصّهيوني والهجمة الأمريكية بل ضد "معاداة الساميّة" (وكأن العرب ليسوا ساميّين) التي يتمعش منها المحتل الإسرائيلي والتي لم تعد تشمل معاداة اليهود فحسب بل تم توسيعها لتشمل كل معارضة للصهيونية ولجرائم الحرب التي ترتكبها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في حق الشعب الفلسطيني.

ونادى بعض المتدخلين ضد تيار التوظيف الذي سارت فيه خطب المنظمين وجوقهم بوجوب الربط بين ما جرى وملابساته لأن العزل والفصل لا يخدم الحقيقة ويحول دون الرؤية الموضوعية ودون تنسيب النظرة والأحكام، من ذلك أن الحوار سواء داخل الجامعة أو في المجتمع معدوم وقنواته مسدودة، وأن الطلبة لا يجدون من يسمعهم ولا من يناقشون، وأن الحلول الأمنية هي الرد الوحيد على تساؤلاتهم، وأن الهجمة الإمبريالية الصهيونية، والتواطؤ الرسمي العربي، في ذروته الآن، والفضائيات التي يشاهدها الشباب والطلابي منه خاصة تقدم له يوميا بالصورة والكلمة مشاهد مرعبة عن جرائم المحتلين والغزاة الصهاينة والأمريكان والبريطانيين إلى الحد الذي من شأنه تشويش الرؤية القائمة لديه على التمييز بين يهودي وشارون (أو صهيوني)، بين أمريكي و بوش، بين بريطاني وبلير. وعبّروا عن مناهضتهم للتطبيع ووقوفهم ضد المطبّعين وذكّروا بمواقف وممارسات وأنشطة عدد من المنظمين في علاقة بالأوساط الإسرائيلية داخل تونس وخارجها، حتى أن السلطة صارت تحتاج إلى خدماتهم في المناسبات التطبيعية. وقالوا إن الطلبة يعرفون ذلك، وحمّلوا الوزارة والمنظمين مسؤولية ما حصل ومسؤولية معالجته، حين نصّت المعلقة على إشراف الوزير ثم لم يأت وترك المنظمين في التسلل يواجهون مكانه.

لكن هؤلاء كانوا مصممين على تسجيل الهدف السياسي الذي من أجله عبّأوا الاجتماع، وكسبوا بيان التنديد الصادر عن الرابطة رغم عموميته، وقاموا بحملة التشهير بالداخل والخارج، فتعمّدوا عدم التمييز بين مكونات المشهد السياسي الطلابي في الكلية، واختاروا التركيز المباشر وغير المباشر على اليسار وتحديدا حزب العمال و"طلبة حزب العمال" (اتحاد الشباب الشيوعي التونسي)، وكـأن حزب العمال في حاجة إلى دروس في التقدمية أو في ضرورة التمييز بين اليهودية والصهيونية، واختاروا، في الآن نفسه، التركيز على "الظلامية" التي باتت تهدّد حسبهم مكتسبات "الحداثة" بتونس، وعلى الحركة والمنظمة الطلابية (يقصدون مؤتمر التصحيح لأنهم يسندون جماعة "زعتور" العاملة في ركاب السلطة) التي تدخل حسبهم "مرحلة غير مسبوقة من التعصّب والإرهاب ومعاداة الساميّة" (تعليقا على هذا الخطاب بارك بعض المتدخلين للجماعة رقصهم الموحّد مع السلطة). وقام من أجاب بأن الحداثة لا معنى لها دون هويّة خاصة في ظل العولمة/الأمركة الهادفة إلى محو الهوية الحضارية والخصوصية الوطنية للشعوب والأمم، وفرض "هوية" كونية أي أمريكية إمبريالية.

ولم يلاق بيان الرابطة ارتياحا وسط المعترضين على توظيف الحادثة داخليا وخارجيا، لأنه جاء وحيد الجانب مستندا إلى رواية واحدة هي رواية الطرف المنظم، وتساءل البعض كيف يعقل أن لا تنصت الرابطة إلى رواية الطلبة المتهمين والأساتذة من غير المنظمين وأنصارهم؟ وازدادت الشبهات حول دوافع الطرف المنظم حين علم المجتمعون بمشاركة "كلود ناتاف" رئيس "جمعيّة تاريخ يهود تونس" الذي يعرفون مواقفه الصهيونية المعادية للحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، بل إن الذين يعرفون "بول صبّاغ" شخصيا يؤكدون أنه لم يكن يُكنّ أيّة مودّة لهذا الشخص، وعلموا أن خبر الاجتماع النقابي والمضمون المرسوم له من قبل الجماعة نشر خارج تونس يوم الأربعاء 15 مارس أي قبل موعد الاجتماع بيوم (انظر المنشور في إيطاليا) وهو ما يعني إعدادا مسبّقا لاستغلال رد الفعل الطلابي على النحو الذي يخدم الأغراض السياسية للمنظمين وأنصارهم ويوفر موضوعيا، أحب الجماعة أم كرهوا، للدعاية الصهيونية مادة ثمينة، استغلتها كي تستعدي السلط التونسية على الطلبة وكافة أنصار الحق الفلسطيني في تونس، بل كي تحرج هذه السلط نفسها وتملي عليها ما ينبغي أن تفعله حتى لا تحشر ضمن "المعادين للساميّة". فقد طالب رئيس المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية بفرنسا (CRIF) السلطات التونسيّة بـ "معاقبة مرتكبي الحادثة المعادية للسّامية". كما استغربت صحيفة "ليبيراسيون" الفرنسيّة التي كرّرت نفس مزاعم الـ"كريف" حول رفع الطلبة شعارات معادية لليهود، عدم تدخل البوليس التونسي الموجود عادة بكل مكان والذي عوّد الناس بالتدخل في الصغيرة والكبيرة ! (انظر مقال "ليبيراسيون" بتاريخ الخميس 16 مارس 2006).

وإذا كان الاجتماع النقابي قد انتقد في اللائحة الصادرة عنه التجاوزات المنسوبة إلى بعض الطلبة فإنه عبّر عن رفضه واستنكاره لـ "كلّ الإشاعات والافتراءات التي وظفتها جهات صهيونيّة مغرضة".

وخلاصة القول إن ما حصل يوم الخميس 10 مارس بكليّة الآداب بمنوبة كان بالإمكان معالجته بشكل عقلاني في إطار الحوار والتنسيق والاحترام المتبادل بين الأساتذة والطلبة المتضرّرين جميعهم من انتهاك نظام الحكم للحرية الأكاديمية ولكافة الحريات. ولكن انعدام التواصل بين الطرفين وخاصة تضخيم الحادثة وتوظيفها من قبل بعض منظمي الندوة وأنصارهم هو الذي جعلها تتجاوز حدود الجامعة بل وحدود البلاد لتستغلها أطراف صهيونية معروفة باصطيادها لمثل هذه الفرص للتغطية على جرائم الصهاينة في فلسطين وتشريعها بل وتقديمها على أنها "دفاع عن النفس". وإذا كانت الحرية الأكاديمية مقدسة ومن واجب الجميع احترامها والدفاع عنها في وجه) أي انتهاك فإن هذه الحرية لا ينبغي أن تتحوّل إلى غطاء لتشريع التطبيع مع الكيان الصهيوني. وإذا كانت معاداة اليهود جريمة مثلها مثل كل أشكال التمييز على أساس العرق أو الدين أو الجنس أو اللون فإنه لا ينبغي اتخاذها مطيّة لتجريم كل من يعادي الصهيونية وجرائمها العنصرية واعتباره معاديا للساميّة.

الإمضاء: مناضل نقابي واكب الأحداث



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني