الصفحة الأساسية > البديل الوطني > أزيلوا السجون تينع الحرية -1-
أزيلوا السجون تينع الحرية -1-
15 كانون الثاني (يناير) 2006

السجون في كل مكان من العالم كانت ولا زالت تشكل مصدرا للبؤس والفشل الاجتماعي والسياسي لأي نظام ديكتاتوري في العالم من برج الرومي إلى أبو غريب ومن أبو زعبل إلى غوانتناموا ...السجن هو دائما وأبدا مصادرة للحرية وانحصار للأكسجين، إنه سؤال كبير مسكوت عنه بنوع من التواطؤ الضمني بسبب الخوف... سؤال يطرح وكل إجابة عنه تعتبر غير كافية فيبقى الغموض ويبقى اللغز والغريب أن يتحول السجن من مكان لعقاب من أجرم في حق المجتمع إلى مكان للتعذيب والتنكيل وإحباط الخصوم السياسيين، فيصبح هذا الخصم شاهدا أخرس... شاهد مسلوب الإرادة في تحدّ صارخ لإنسانيته في إطار محاولة تحطيمه تمهيدا لإخضاعه بالكامل لمنظومة علاقات استلابية يتحول فيها المسجون/الفرد إلى عبد مطيع أو أداة رخوة مبرمجة وفق أهواء السلطة، حيث لا يغدو الإنسان إنسانا بل يصبح كائنا بيولوجيا لا كرامة ولا إرادة له.

السجون في الضفة الجنوبية والشرقية للمتوسط تظل شكلا من الأشكال المقيتة لعنف الدولة وقمعها المتواصل واغتيالها للحياة تجاه مبادرات المجتمع ورغبات الأفراد وتطلعات القوى الحية في الانعتاق والتحرر. في هذه الأقبية المظلمة بالمظالم والتي ينتهك داخلها وحولها كل شيء و تلحق منظومة حقوق الإنسان جملة من البشاعات تفوق التصور فلا قيمة للإنسان في هذه الأماكن ولا وزن له مادامت حياته تستوي مع حياة الحشرات والجرذان التي تعشش في الأنفاق وفي الزوايا المظلمة ودورات المياه الآسنة. فعندما نتحدث عن السجون وقمع السجون في الأقطار العربية نتذكر الأديب الراحل عبد الرحمن منيف الذي عرى قمع الأنظمة العربية عبر ما يحدث داخل سجونها من فضاعات، في هذا الصدد يقول أحد أبطال روايته "الآن...هنا" أو "شرق المتوسط مرة أخرى": "قصص السجن كثيرة وموجعة وستبقى تتوالد وتتراكم مادام السجن موجودا وما دام الجلاد قائما ... إن السجن كجهنم، لا يشبع والجلاد لا يعرف التعب، إلى أن ينتهي، إلى أن يصبح هو ذاته ضحية، ثم يصبح بعد ذلك قصة الأماكن المظلمة عبر بطل هذه الرواية يقول في الصفحة 311: "لا أعتقد أن في العالم مكانا يحوي عددا من السجون كما هو الحال في ضفتي المتوسط الشـرقية و الجنوبية، ولا أعتقد أن في العالم عددا من السجناء كما في هاتين الضفتين، وثورة الباستيل التي تجاوزت فرنسا لتعم العالم كله، يبدو أنها لم تصل بعد، ولم تصل أصداؤها وأخبارها أيضا إلى هذه البقعة من الأرض، و إلا كيف نفسر السجون التي تشاد يوما بعد يوم؟".

كما عكست السينما العربية عبر بعض الأفلام الهادفة صورا عن بشاعات السجن بكل ما يحمله من دلالات سياسية واجتماعية تعكس حركة المجتمع وصراعه الاجتماعي والطبقي وتبرز التناقض بين الفرد والسلطة الحاكمة بما تملك من آليات وبنى وقوانين من جهة، وبين الأحزاب السياسية بكل أطيافها والطبقات والفئات الاجتماعية المسحوقة من جهة أخرى. هاته السلطة المعززة بأدوات القمع والمسلحة بالأوامر والنواهي التي تسنها بما يخدم مصالحها ويكرس بقاءها في الحكم، وبين جموع الشعب. يمكن أن نذكر بعض الأفلام التي شدّت الاهتمام في هذا الصدد منها مثل "الكرنك" لعلي بدر خان و "وراء الشمس" لمحمد راضي. و"أسياد و عبيد" لعلي راضي و "أحنا بتوع الأوتوبيس" لحسين كامل و "طائر الليل الحزين" ليحي العلمي و"البريء" لعاطف الطيب و"زائر الفجر" لممدوح شكري...

بعيدا عن المشهد السينمائي بحبكته الدرامية وفي إطار واقعنا المحلي التونسي شهدت السجون التونسية عبر مراحل تاريخها الطويل/المرير جملة من الأحداث الهامة والتحركات البطولية التي خاضها المساجين السياسيون دفاعا عن حقهم في الوجود والحرية ورفض الخضوع والإذلال التي مارستها السلطة بهدف تركيع الأحرار أو المس من معنوياتهم وضربها في الصميم. فمنذ انحصار فلول الاستعمار الفرنسي المباشر على أرض الوطن أسرعت السلطة الجديدة التي انتصبت على أنقاضه بقيادة بورقيبة إلى تدعيم ركائز المؤسسة السجنية وأحلتها المحل الرئيسي في تعاملاتها مع كل المعارضين ومع كل من لا يخضع لهيمنة الفكر الأبوي الذي ركز معالمها الديكتاتور الراحل باعتباره "سيد الأسياد" على حد تعبير شاعر البلاط آنذاك أحمد خير الدين، فانتشرت السجون والمعتقلات البائسة من مخلفات الاستعمار الفرنسي المباشر. وعرفت الحرية المصادرة والإقصاء بمصادرة الرأي الآخر ومنع تعدد الأحزاب. وانتهكت الكرامة الإنسانية على أوسع، نطاق وبعثت المحاكم الخاصة لمقاضاة رفاق الأمس خصوصا من اليوسفيين. فبعد 20 مارس 1956 بأقل من عشرة شهور انتظمت أول محاكمة سياسية بالبلاد نظرت فيها محكمة القضاء العليا بتونس وأحيل فيها 57 متهما بتهمة التآمر ضد أمن الدولة الداخلي ومسك السلاح الناري بدون رخصة والانضمام إلى عصابة متمردين وقد ذاق الموقوفون بمعتقلات وسجون "الاستقلال" الويلات من ألوان التعذيب والمحق. وعرفت عائلاتهم التشرد و الضياع وتمّ اغتيال صالح بن يوسف للقضاء على كل نفس معارض. وتواترت من يومها إلى الآن المحاكمات السياسية ومن ثم الإيقافات والتتبعات التي مست جميع العائلات السياسية والفكرية بالبلاد والتي طالت بعض رموز السلطة ذاتها في مراحل تآكل هذه الأخيرة وفي إطار تصفية الحسابات الضيقة التي تحدث بين مختلف الأجنحة المتناحرة داخلها ( بن صالح، قيقة ، مزالي الخ...).

لقد كانت الأوضاع المعيشية للمساجين السياسيين داخل السجون قبل 1956 مثلما أبرزتها المؤرخة ليلى عدة الباحثة في معهد تاريخ الحركة الوطنية التابع للجامعة التونسية في العدد الثاني من مجلة "روافد" التي يصدرها المعهد ، كانت هذه الأوضاع "مريحة" حسب الباحثة. فقد كان المعتقلون الوطنيون مجمّعين في أقسام خاصة بهم داخل السجن وتضم الغرفة عدد 17 ما يقارب العشرين من القياديين والمسؤولين الكبار الدستوريين والشيوعيين في ظروف مريحة نسبيا حيث تتوفر لديهم الأسرة والكراسي والطاولات... أما مساجين الحق العام فكانت ظروف اعتقالهم سيئة للغاية حيث تحتوي الغرفة الواحدة على ما يقارب الــ 100 سجين ينامون أرضا على مجرد ( حصيرة )... والملفت للنظر وجود 20 سجينة سياسية في تلك الفترة وكن يقمن مع سجينات الحق العام في نفس الغرفة... وفي خصوص ظروف الاعتقال بسجن تونس حينئذ ، يمكن أن نذكر أن (اللجنة الدولية ضد نظام الاعتقال الجماعي) التي زارت تونس في تلك الفترة كتبت في تقريرها أن سجن تونس الذي زارته يوم 22 جانفي 1953 (لا تفوق قدرة الإيواء فيه 750 سجينا في حين أنه يضم 2500 سجين موزعين على غرف طول الواحدة 35 مترا وعرضها 7 أمتار وارتفاع سقفها ما بين 5 و6 أمتار ، ويقيم في كل غرفة ما بين 165 و 180 سجينا ينامون على (حصيرة ) و يتوفر لكل واحد منهم غطاء.

كما قام الوطنيون خلال سنة 1954 في الفترة المتراوحة من 25 جانفي إلى 22 مارس بإصدار نشرية "النكتة" بسجن 9 أفريل احتوت على العديد من المقالات والأركان القارة وكانت توزع بين المساجين وتباع بالعدد أو عن طريق الاشتراكات. كما كان الوطنيون التونسيون من المساجين أنذاك على إطلاع دقيق بما يدور من أحداث سياسية على الصعيدين الوطني والعالمي ولم تمنعهم ظروف اعتقالهم من إبداء ملاحظاتهم حول كل ما يحدث من ذلك أن العدد 2 من نشرية "النكتة" الصادر في غرة فيفري 1954 يحوي افتتاحية بعنوان "لا للسيادة المزدوجة... يا سيد فوازار".

وبعد انتقال إدارة دواليب هذه السجون من أيدي غلاة الاستعماريين إلى أيدي غلاة الديكتاتورية من التونسيين تدهورت الظروف الحياتية داخل السجون بصورة جلية وهو ما عكسته تصريحات المساجـيــن السياسيين وعائلاتهم وما أشارت إليه باستمرار التقارير الصادرة عن منظمات حقوق الإنسان منذ سنوات عديدة والتي أحرجت بكل تأكيد السلطة التي دأبت على إخفاء الحقائق في حين أن الأمور سيئة إلى درجة أن الحديث عن تونس في تقارير المنظمات والهيئات الإنسانية صار مقرونا بشكل دائم بالحديث عن التعذيب فيه، وهو ما كان السبب في حصول بن علي على إدانة في مناسبتين (1998-1999) من لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب. كما وجه الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان رسالة لمنظمات حقوقية عبر فيها عن انشغاله الكبير لتدهور وضع حقوق الإنسان في تونس مشيرا إلى أنه راسل الحكومة التونسية في 26 مناسبة حول وضع الحريات في البلاد خلال سنة 2004 لوحدها . فما الذي يميز أوضاع السجون ببلادنا ؟ وما السبيل إلى تجاوز الوضع الراهن ؟(يتبع)



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني